الرئيسيةاول الكلام

الكاتب الكبير عامر بوعزة: عن قابس وأزمة الحكم في تونس

ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا...

قد يبدو للوهلة الأولى أن قضية قابس مع التلوث الصناعي ضاعت بين أرجل المتدافعين، من الذين يراكمون أخطاء السلطة، ومن اللذين يؤولون كل شيء لصالح الموقف الرئاسي الوحيد من كل قضايا العالم: «متآمرون تحركهم أياد من الخارج لضرب الاستقرار وتفجير الدولة من الداخل!» والحال أن مظاهرة قابس يمكن أن تكون منطلقا لمرحلة جديدة فعليا من ناحيتين على الأقل: ما عكسته من تضامن مجتمعي ومواطني بلا حدود، وما تمثله رمزيا من وعي حضاري وإنساني.
الأزمة في قابس متعددة الأبعاد، تمتد جذورها إلى أعماق الدولة وأبعد خياراتها التنموية والاقتصادية، وما أفضت إليه بعد عقود من انعكاسات على البيئة والمجتمع.
أزمة تطرح على الدولة أسئلة عميقة عن الحق في الحياة. لكن فيما يرفع المتظاهرون مطلبا واضحا لا يقبل التأويل ويدعو إلى إيقاف التلوث نهائيا تتناول الحكومة الملف بيدين مرتعشتين وتعد بتوفير مستشفى للأورام السرطانية وتتحدث عن مشاريع غير منتهية سيعهد بها إلى شركات صينية يتوقع أن تؤدي إلى التقليل من نسبة التلوث ولا تتعهد بالقضاء عليه نهائيا!
بين مواطن يعرف جيدا ما يريد، وحكومة تتشبث بخطة قديمة لا يمكنها التخلي عنها، يطرح الرئيس اقتراحا ثالثا لا يفهمه أحد، ويتحدث عن مؤامرات ومتآمرين، ويضع نفسه في مواجهة مع جيل كامل (جيل زاد)، فهل المتآمرون الذين يأتمرون بأوامر الخارج هم الذين عطلوا تأهيل المجمع الكيميائي أم الذين حركوا الشارع ضد السلطة بمطالب تعجيزية؟ هل يقتصر دور هؤلاء على التحريض والزج بالقصر في المظاهرات الليلية، أم هم الذين يتحكمون في كل شيء؟

التفاوت صارخ بين موقف شعبي يتقدم أشواطا في الدفاع عن حقه في الحياة بوسائل سلمية وموقف سلطة ليست قادرة على الإصغاء لنبض الشارع الحقيقي. ومن الخطير أن ينزاح التمثل بالتراث الأدبي في خطاب الرئيس بعد سبع سنوات من ممارسة الحكم تدريجيا من مجال الحكمة الذي عهدناه في قصص الضب وحكايات كليلة ودمنة، ومن مجال العدل الذي عهدناه في قصص عمر بن الخطاب وبغلة العراق، إلى مجال السخرية والهجاء والتهديد كما يتجلّى في نموذج جرير والفرزدق.
لم تعد نظرية المؤامرة قادرة على تفسير كل شيء، ولم يعد يقتنع بها إلا أبواق النظام في برامج الإذاعة والتلفزيون، فوجود أحزاب ومنظمات وراء التحركات الشعبية ليس جريمة، بل صمّام أمان كي لا تنحرف هذه المظاهرات عن مطالبها الأصلية وتفسير المظاهرات بالمؤامرة إهانة حقيقية للمواطن، إذ يجرد من وعيه الراقي بشروط مواطنته ويتهم ببيع الذمة لمن يدفع.
مظاهرة قابس تاريخية وحرية بالتقدير وبأن تكون منطلقا لتغيير حقيقي، ولو أتيح لتلك الجموع الغاضبة أن ترد على شواهد الرئيس التي انتقاها من تراث الدولة الأموية لاختارت بلا شك بيتا شهيرا من معلقة الشاعر الجاهلي عمرو بن كلثوم: ألا لا يجهلن أحد علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا…
*عامر بوعزة، كاتب وشاعر وصحافي تونسي مقيم خارج البلاد”الهايلة”
Please follow and like us:
fb-share-icon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *