اول الكلام

عامر بوعزة يكتب عن صالح الجعفراوي

قال لي عالم اجتماع فلسطيني في حوار أجريته معه منذ أكثر من ثلاثين عاما: “إسرائيل في حاجة دائمة إلى الحرب، إنها في حاجة إلى حرب لا تنتهي”.
كنا يومها في قابس، في إحدى دورات مهرجان الرواية العربية مطلع التسعينات، وانتفاضةُ الحجارة تنطفئ شيئا فشيئا على وقع أقدام مفاوضي “فتح” يترددون على “أوسلو” سرّا لطبخ “اتفاق سلام” سيعلَن عنه لاحقا للحصول على ما أسماه أحمد دحبور: “ما يشبه الوطن”! قبل ثلاث سنوات من ولادة الصحفي صالح الجعفراوي.
كان عالم الاجتماع يقف على الضفّة المقابلة للضفّة التي يقف عليها المناضل، مدركا أن ما سيطلق عليه ياسر عرفات فيما بعد “سلام الشجعان”، ليس إلا فصلا آخر من فصول الحرب. وتفسيره للمسألة بديهي وواقعي أكدته الأحداث، فالمجتمع الذي تشكّل على الأراضي الفلسطينية المحتلّة بالهجرة والاستيطان خليط من ثقافات ولغات شتّى لا تكفي الديانة وحدها لصهره وتذويبه ولذلك ينبغي أن تتواصل الحرب إلى أن تتغير الأجيال، الحرب إذن ضرورة للبقاء في مجتمع كان سيفشل بلا شك في أي اختبار للسلام.
وفي حوار تلفزيوني مع قناة فرنسية بعد مضي سنتين على جولته في الشرق الأوسط فسّر بورقيبة فكرته التي أعلنها في “أريحا” بأن الحرب حتمية من الجانب الإسرائيلي، ولذا اقترح على الفلسطينيين كسب ورقة الشرعية الدولية بقبول قرار منظمة الأمم المتحدة.
كان ذلك مما سيغير موازين القوى المعنوية ويكشف العدو على صورته الحقيقية بدل تركه يتذرع دائما بالمظلومية. وهذه هي الترجمة السياسية لوجهة النظر السوسيولوجية، ففي ستينات القرن الماضي لم يكن ثم شيء يوحّد المهاجرين إلى أرض الميعاد غير فكرة الاضطهاد، الورقة التي أراد بورقيبة سحبها منهم!
ومنذ نحو ثمانين عاما والحرب الدائرة رحاها في فلسطين بين أصحاب الأرض التاريخيين والشعب الذي كونته الحركة الصهيونية العالمية تحتفظ بصورة رمزية نموذجية لها في حيّز الخطابة والتمثّل، صورة تقوم على إنكار الواقع، فكثير من أنصار (الحقّ الفلسطيني) لا يمكنهم تخيّل شكل الحياة في الداخل وكيف يتعايش عرب 48 مع اليهود في مجتمع واحد، وقد أسرّ لنا أحدهم في جلسة معه على هامش مهرجان خطابي كبير: مهمتنا نحن الإبقاء على القضية ماثلة في الأذهان والتشبث بحق العودة، لكن حياتنا اليومية هناك أفضل بكثير من حياة الشعوب العربية في أوطانها! وقال لنا أحد الغزاويين معترضا على فكرة التغطية الإخبارية المتواصلة لمجريات الحرب والترويج لها بما يعطي الانطباع بأننا أمام شعب جبار لا ينهزم: “لو تفتح المعابر لأربع وعشرين ساعة فقط، لن يظل في غزة فلسطيني واحد!”
وبينما كان المخطّط الصهيوني الذي أشار إليه عالم الاجتماع يمضي إلى غايته بولادة أجيال جديدة لا تعرف غير “إسرائيل” أرضا لها، ويمكن إقناعها فعليا بأن الحرب بدأت يوم 7 أكتوبر 2023، أخفق الفلسطينيون منذ مغادرتهم الشتات منتصف التسعينات في اختبارات السلام، ومن المخيب للآمال أن إخفاقاتهم ستتواصل، وسنجد حرجا كبيرا في الحديث عن مصرع الصحفي صالح الجعفراوي، وحرجا أكبر في تناول الشأن الفلسطيني في مرحلة ما بعد الحرب. فعبارات (ميليشيات مسلحة) و(عملاء يتعاونون مع العدو) تنزع عن الفلسطيني الرداء الملائكي الذي خلعه عليه أدب المقاومة بوصفه رمزا للنقاء، فلطالما كانت الخيانات والتصفيات المسكوت عنها بين الإخوة الأعداء ترسم لنا واقعا آخر ننكره ونتحاشاه!

 

  • عامر بوعزة، صحافي وروائي وشاعر تونسي مقيم خارج البلاد الهايلة 
Please follow and like us:
fb-share-icon

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *